قوة الدولة وسلطات الأمر الواقع
السلاح خارج سلطة الدولة، هو لا شك عقبة كبيرة أمام أية حكومة لاستكمال عناصر سيادتها على هذه الدولة، فضلاً عن العوامل الأخرى الاقتصادية والمجتمعية، التي تحتم ألا يكون هناك سلاح منفصل أو يتحدى السلطة المركزية، ما لم تكن حيازته بترخيص من هذه السلطة.
وفيما تواصل السلطة في دمشق حملاتها الأمنية وعمليات التسوية، لجمع السلاح الفردي المنهوب من مستودعات وثكنات جيش النظام السابق، أو الموجود أصلا بحوزة بعض المجموعات سواء المرتبطة بذلك النظام، أم لأسباب أخرى، تقف اليوم عدة مناطق في مواجهة سلطة الدولة متذرعة بعدد من المسوغات للاحتفاظ بسلاحها، وهي "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) شرقي سوريا، وفصائل السويداء في الجنوب السوري، بينما تتذبذب الفصائل والمجموعات في درعا بين الموافقة العلنية على تسليم السلاح، والممانعة العملية.
كيف يستقيم أن تطالب بوجود حكومة مكتملة السيادة والصلاحية، حتى تسلمها السلاح، وتمتنع في الوقت نفسه، عن منحها أهم عنصر لاستكمال هذه السيادة، وهو احتكار السلاح..
ولعل المسألة-الذريعة الأبرز التي تساق في الجنوب، هي أننا نسلم سلاحنا فقط عندما تكون هناك حكومة منتخبة ومعترف بها دوليا، وليس للحكومة الحالية، بينما تضع "قسد" مجموعة من الاشتراطات أبرزها أن تدخل الجيش السوري الجديد ككتلة واحدة، وليس بشكل فردي، كما تطرح الإدارة في دمشق.
وبطبيعة الحال، فإن هذه العناوين تحتمل الكثير من النقاش، وهناك بالفعل نقاشات ومفاوضات تجري بين الإدارة في دمشق، وهذه الأطراف، لكن يبدو أنها لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن.
غير أنه إذا حاولنا إجراء محاكمة بسيطة لجوهر الفكرة المطروحة سواء في الشمال أم الجنوب، نجد أنها لا تصمد كثيراً على المحك العملي، فكيف يستقيم أن تطالب بوجود حكومة مكتملة السيادة والصلاحية، حتى تسلمها السلاح، وتمتنع في الوقت نفسه، عن منحها أهم عنصر لاستكمال هذه السيادة، وهو احتكار السلاح.. ثم لماذا تكون منطقة ما، بحاجة إلى تطمينات أكثر من بقية المناطق، وما الذي يهدد هذه المنطقة، ولا يهدد غيرها؟
والواقع، لا يمكن فهم هذا التمنع إلا في إطار محاولة بعض الفصائل الحفاظ على امتيازات اكتسبتها في عهد النظام السابق، دون الاهتمام حقيقة بمصالح ورغبات أبناء المنطقة الذين يشتكي كثير منهم من السلاح الفصائلي ومن السلاح الفردي المكدس في البيوت، ما يهدد السلم الأهلي، ويجعل كل شخص غير مسلح، تحت رحمة الطرف المسلح.
أما في الشرق، فإن أطروحة "قسد" الأساسية للدخول ككتلة واحدة في الجيش، لا تستقيم مع مفهوم الجيش الوطني الذي لا يمكن أن يقوم على المناطقية والعرقية والمذهبية، بل على الوطنية السورية فقط.
خاصة مع ادعاء "قسد" أن قواتها يبلغ عديدها مئة ألف مقاتل، وهذا جيش بحد ذاته، قد يصل حجمه إلى حجم الجيش المنشود كله، والذي من المتوقّع أن يكون عدده بهذه الحدود، كونه سيعتمد على المتطوعين، وليس المجندين.
يضاف إلى ذلك، أن "قسد" تريد أن تبقى قواتها في مناطقها، بمعنى سيكون لدينا جيش مواز إلى جانب الجيش المركزي، وهذا لن يحد من سلطة المركز على تلك المناطق وحسب، بل سيفتح الباب على مصراعيه لمطالب مماثلة من بقية المناطق، ما يعني فشل المشروع الوطني برمته، والذي تدعي قيادة "قسد" استعدادها للانخراط فيه، وهو ادعاء نظري لا تدعمه المعطيات على الأرض.
لا شك أننا أمام محاولة من جانب قوى فصائلية ضيقة، لا تمثل كل مجتمعاتها المحلية، ولا حتى غالبيتهم، للحصول على امتيازات السلطة على حساب تلك المجتمعات من جهة، والدولة المركزية، بما تمثله من بقية المناطق، من جهة أخرى.
هذا فضلاَ، عن وجود تقاطعات حقيقية بين هذه القوى، وقوى خارجية، تسعى لاستغلالها بغية تعميق المشكلات أمام السلطة المركزية، والحفاظ على حالة الضعف والتفكك التي تشكلت في عهد النظام السابق، خاصة إسرائيل التي تسعى أيضاً إلى تسخير الولايات المتحدة وقوتها المنتشرة في المنطقة لتحقيق هذا الغرض، وحرمان حكومة دمشق من امتلاك عناصر القوة المتمثلة في السيطرة على الثروة النفطية والغازية، حيث تشترط "قسد" الحصول على حصص مبالغ فيها من هذه الثروات، على حساب بقية المناطق السورية.
إنّ القوى المختلفة الموجودة في الساحة السورية، بما فيها الحكومة في دمشق، والتي تمثل قوة الدولة وشرعيتها، هي على المحك اليوم، وعلى نتائج هذه المكاسرة مع سلطات الأمر الواقع، ستبنى الوقائع الجديدة في سوريا المستقبل.
لعل الرهان اليوم، هو على المزاج الدولي، خاصة الأميركي، في دعم جهود هذه الحكومة لبسط سيطرتها على كل المناطق السورية، وعلى العلاقة الطيبة التي تربط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان..
والذين تحمّلوا مسؤولية إزاحة نظام متجذر لعقود عن صدر سوريا، لن يسمحوا كما هو مرجح، لقوى داخلية، لديها شبهة الارتباط مع الخارج، بإحباط مشروع إقامة الدولة، والتي يعدون ليل نهار، بأنها ستكون لكل مواطنيها على قدم المساواة، مع الاعتراف بحقوق بعض المناطق في إدارة بعض شؤونها الداخلية.
ولعل الرهان اليوم، هو على المزاج الدولي، خاصة الأميركي، في دعم جهود هذه الحكومة لبسط سيطرتها على كل المناطق السورية، وعلى العلاقة الطيبة التي تربط الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، والتي قد تتمكن من تجاوز التأثيرات الإسرائيلية السلبية على إدارة ترمب فيما يخص الشأن السوري، بما فيها لجم إسرائيل عن التدخل العسكري في المناطق الحدودية مع سوريا.
Source: View source