هل نقف اليوم في سوريا على عتبة التأسيس لمرحلة استبداد جديدة، بخلفية دينية هذه المرة؟ لا بد أن هذا السؤال يُؤرق شريحة واسعة من السوريين، خاصةً أولئك الذين شاركوا في النضال ضد نظام الأسد، بطرق وأشكال مختلفة، طوال عقد ونيف من حياتهم، وذلك على أمل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي رشيد في بلادهم. واليوم، يواجه كثير منهم حملات شرسة تستهدفهم كلما أدلوا بدلوهم في انتقاد بعض سياسات أو قرارات أو إجراءات الإدارة السياسية الجديدة الحاكمة في دمشق.
تتجلى هذه الحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يمكن رصد انعكاسات جدّية لها على الأرض حتى الساعة. وفي الـ"سوشال ميديا"، ازداد انخراط السوريين بصورة كبيرة جداً، وأصبحوا في غالبيتهم يدلُون بدلوهم في كل صغيرة وكبيرة. وهذه ظاهرة صحية، لولا الشراسة التي يتلقاها منتقدو الإدارة الجديدة، والتي تصل إلى حد التخوين لناشطين عُرفوا لسنوات طويلة على أنهم من مناوئي نظام الأسد المخلوع.
توحي تلك الحملات "الافتراضية" بجملة ملاحظات: الأولى، وجود شعبية كبيرة لأحمد الشرع، الحاكم الفعلي لمعظم التراب السوري اليوم. ثاني الملاحظات، الخلفية الدينية لأصحاب تلك الحملات، وانحيازهم الجلّي للتيار الإسلامي القابع في سدة السلطة اليوم. أما ثالث تلك الملاحظات، فهو بروز شعارات شعبوية، من قبيل "من يحرر يقرر"، و"نحن الأغلبية نشكل 80% من الشعب".. إلخ.
في الـ"سوشال ميديا"، ازداد انخراط السوريين بصورة كبيرة جداً، وأصبحوا في غالبيتهم يدلُون بدلوهم في كل صغيرة وكبيرة. وهذه ظاهرة صحية، لولا الشراسة التي يتلقاها منتقدو الإدارة الجديدة
لكن تعبير تلك الحملات عن نفسها عبر "السوشال ميديا" يدفع للتشكيك في مدى تعبيرها عن اتجاهات السوريين الفعلية على الأرض. فإلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى تمثيل "العالم الافتراضي" لاتجاهات السوريين ومواقفهم السياسية اليوم؟ يصبح هذا السؤال ملحاً أكثر على صعيد العلاقة بين الدين والسياسة في سوريا المستقبل، بصورة تدفعنا للتساؤل: هل نحن حقاً باتجاه ديكتاتورية مغلّفة، هذه المرة، بالأيدولوجية الدينية؟
قد تبدو الإجابة على الأسئلة السابقة عصية على التحري الموضوعي في الوقت الراهن، إذ يتطلب ذلك أبحاثاً ميدانية تستند إلى الاستبيان، وتحتاج إلى الوقت والجهد البحثي الرصين لاستكشاف مدى اقتراب تعبيرات السوريين "الافتراضية" من واقعهم. لكن في الوقت نفسه، يمكننا الاستناد إلى تجارب بحثية قريبة قد تعطينا مؤشرات يمكن الركون إلى بعضها في تصور مشهد أقرب إلى الواقع الموضوعي اليوم.
من تلك التجارب البحثية التي يمكن الاستفادة منها، دراسة صدرت عن منظمة "اليوم التالي"، المعنية بدعم الانتقال الديمقراطي في سوريا. الدراسة التي حملت عنوان "أنماط التدين السوري والقضايا المدنية والسياسية" صدرت في تشرين الأول 2022، واستندت إلى الاستبيان لجمع البيانات عبر عينة مؤلفة من 2860 مفردة بحثية، شملت سبع مناطق، منها إدلب وأريافها (كانت خاضعة لحكومة الإنقاذ – أحمد الشرع)، وشمالي حلب (المؤقتة)، ومناطق سيطرة النظام المخلوع، ومناطق سيطرة "قسد".
وشمل الاستبيان 23 سؤالاً، وحرص معدّوه على توزيع أفراد العينة المختارة بما يتناسب مع تنوع السوريين الطائفي والعرقي والديني، وكذلك العمري والجندري، والتعليمي. واستهدف الاستبيان التحري عن دور الدين في تشكيل موقف السوريين حيال السياسة وتصورهم لسوريا المستقبل.
وبالاستناد إلى نتائج الاستبيان، يمكن فرز جملة معطيات إيجابية مفاجئة إلى حد ما، وأخرى متوقعة وترسّخ التصور القائم اليوم. ولنبدأ بالصنف الأول من المعطيات: إذ أظهرت غالبية العينة، بنسبة تصل إلى نحو 75%، انفتاحها حيال الآخر المختلف عنها في سوريا. كما أظهرت غالبية ساحقة، بنسبة 91%، تأييدها لمبدأ المساواة تحت سقف القانون لجميع أتباع الأديان والطوائف. ورفضت غالبيتهم، بنسبة 58%، مبدأ المحاصصة الدينية والطائفية في الممارسة السياسية. وأيدت غالبية العينة، بنسبة 75%، حق جميع الأديان والطوائف بالقيام بشعائرها بحرية. وذهب 71% منهم إلى أن نمط التدين ودرجاته هي مسألة شخصية.
أظهرت غالبية العينة، بنسبة تصل إلى نحو 75%، انفتاحها حيال الآخر المختلف عنها في سوريا. كما أظهرت غالبية ساحقة، بنسبة 91%، تأييدها لمبدأ المساواة تحت سقف القانون لجميع أتباع الأديان والطوائف
لكن إلى جانب المعطيات الإيجابية إلى حد ما، كانت هناك معطيات متوقعة. إذ أيّد نحو 51% أن يكون رجال الدين مكوّناً أساسياً في مؤسسات الدولة. وهي إشارة خطيرة، لكن لا يجب اعتمادها من دون ملاحظة الارتباك الجلي في اختيارات أفراد العينة، من جراء الفوضى والتعقيد الذي عاشوه خلال الفترة ما بين 2011 والعام 2022. إذ تشير نتائج الاستبيان بشكل جلي إلى فقدان ثقة السوريين بنخبهم السياسية بصورة عامة.
ويمكن أن نلحظ ذلك في إجاباتهم بخصوص مرجعياتهم السياسية، إذ يظهر نكوص جلي باتجاه المنظومات الأولية. فقد قال 52% منهم إن مرجعيته هي شخصيات موثوقة من محيطه المحلي، وأشار نحو 41% إلى دور رجال الدين في تشكيل مرجعيته، فيما كان دور الأحزاب السياسية لا يتجاوز 12%. وإن كان يمكن لحظ تأثير للمفكرين السياسيين بنسبة 41%، أي أن هناك دوراً لمؤثرين متخصصين في هذا المجال، وهذه إيجابية يمكن البناء عليها.
وقد أقر أفراد العينة بازدياد دور الدين في الحياة اليومية للسوريين، وازدياد دور رجال الدين في السياسة، وطغيان الهوية الدينية على الوطنية والقومية، وارتداد نسبة كبيرة من السوريين إلى انتماءاتهم الطائفية. لكن في المقابل، يمكن رصد معطيات تخفف من سلبية هذه المؤشرات. فأفراد العينة لم يقدموا أي سلطة أمر واقع (في حينها) أو جسماً سياسياً أو دينياً، بوصفه يعبّر عنهم ولو بالحد الأدنى. إذ حظيت حكومة الإنقاذ في إدلب (تحرير الشام) بنسبة تأييد 7.3% فقط، في حين حصلت "المؤقتة" بشمالي حلب على نسبة تأييد 14.1%. بينما حصل النظام المخلوع على نسبة تأييد لا تتجاوز 16%. أما "داعش" فحصلت على تأييد بنسبة 0.7%. في حين حصل الإخوان المسلمون على نسبة 5.5%. وكان أعلى الأجسام السياسية تأييداً هو المجلس الإسلامي السوري (أسامة الرفاعي) بنسبة 18.9%.
وهكذا، لم يقترب أي من الأجسام السياسية والدينية التي كانت قائمة قبل سنتين في سوريا من نسبة تمثيل مقبولة لدى أفراد العينة. وهو أمر يمكن القياس عليه اليوم. فحكومة الإنقاذ، التي كانت قائمة في إدلب، تحكم بصورة كبيرة معظم التراب السوري اليوم. ورغم الشعبية الجارفة لها في العالم الافتراضي للسوريين، إلا أنها لم تكن تحظى بنسبة تأييد حقيقية من جانبهم، على أرض الواقع، قبل هذا التاريخ بسنتين فقط. مما يجعل أداءها في الفترة القادمة خاضعاً لميزان التقييم الحاد من جانب الشارع السوري المترقب اليوم.
لم يقترب أي من الأجسام السياسية والدينية التي كانت قائمة قبل سنتين في سوريا من نسبة تمثيل مقبولة لدى أفراد العينة
وتأييدهم لها غير مبني على البعد الديني، بقدر ما هو مبني على أدائها الخدمي وتأثيرها على حياتهم المعيشية. أما على المدى الزمني الأبعد، فهناك مؤشر ملفت للغاية، خرج به الاستبيان المشار إليه، متعلق بنوع الاتجاه السياسي الذي يؤيده السوريون على صعيد الأحزاب السياسية. إذ أيد 32% من أفراد العينة الاتجاه الديمقراطي الليبرالي، و20.2% أيد التوجه القومي، فيما أيد 17.2% منهم فقط التوجه الديني.
وإن أردنا تقييم ما تعنيه النتائج أعلاه، وإسقاطها على مستقبل السوريين في ضوء التطورات الأخيرة بعد سقوط النظام المخلوع، يمكن القول إننا قد نكون في المدى الزمني القريب أمام موجة "أسلمة" مرتفعة للممارسة السياسية. لكن هذه الموجة ستكون معرّضة للتقييم الحاد، وربما الردة الشعبية عنها، على مدى زمني أبعد، إن لم ينجح الإسلاميون في تحقيق تطلعات السوريين المعيشية والخدمية، مرفقة بعدم التدخل في أنماط تدينهم ودرجاته.
Source: View source